وقفة! .. لماذا ندمِّر السودان؟؟؟
أ.د. طه عابدين طه يكتب :
—————————
سافرت قبل أكثر من سبع وعشرين سنة من الزمان لأقدِّم محاضرة دينية في مدينة الدلنج، وقد كانت المنطقة متوترة بحروب قبلية طاحنة في تلك الفترة، بين النوبة والقبائل العربية “البقارة الحوازمة” حتى أثَّر ذلك النزاع على كل حركة الحياة اليومية هناك..
ولما علموا أن الشيخ القادم إليهم من مدينة دنقلا توافدوا جميعا إليها حتى امتلأ المسجد، كل قبيلة كانت تشعر أني أنتمي إليها، لاحتمالية الأثنية النيلية” النوبية العربية”، وقد أحسست بشدة التوتر في وجوه الحضور حيث خلت وجوههم تماما من الابتسامة المعهودة في أهلنا بجبال النوبة..
فظللت أبحث عن طرفة أخرجهم بها من هذا التوتر فلم أجدها حتى قام واحد من أبناء النوبة فسألني هل أنتم نوبة النيل أبناء خالتنا؟، قلت له : نعم. نحن أبناء خالتكم ؛ ونتشرف بذلك؛ ولنا حضارة نوبية تمتد لآلاف السنين لا يوجد أقدم منها.. ولكن الفرق بيننا وبينكم أننا تصالحنا مع القبائل العربية المهاجرة التي جاءت تحمل الهدى (الإسلام) إلينا، وتزاوجنا وانصهرنا فيما بيننا ، فكانت هذه السحنة النوبية العربية المتميزة التي أصبحت تمثل سحنة عامة أهل السودان، وأنتم ما زلتم تتشاحنون فيما بينكم.. فضحك الجميع وفهموا مغزى كلامي، فقلت لهم: هذا هو السودان الذي لا يمكن أن يكون بغير ذلك..
* ومن هنا أوجِّه سبع رسائل مهمة لجميع أهلنا في السودان قبل فوات الأوان، والبكاء على الأطلال:
١) غالبية أهل السودان – ولله الحمد – مسلمون، ولا يخفى علينا حرمة الدماء في الإسلام، وزوال الدنيا أهون عند الله تعالى من إراقة دم مسلم، ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعاً، فلا يجوز القتال تحت راية جاهلية، ومن قاتل تحت راية جاهلية فالقاتل والمقتول في النار، انظروا إلى ما يترتب عن قتل المؤمن في قوله: ﴿وَمَن يَقتُل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظيمًا﴾ [النساء: ٩٣].
٢) النهوض بأي بلد يبدأ من تحقيق الأمن والسلام بين أهله، فإذا أردنا سودانًا مستقرًا مزدهرا وينتهي النزوح والتشرد فلننزع فتيل الحروب، ولنفتح صفحة السلام التي يرعى فيها حق الجميع، وليس المهم من أي قبيلة يكون من يحكم المهم أن يكون سودانياً يعمل لخدمة السودان محترماً للدين والعادات، محققا للعدل، محارباً للفساد والظلم، ساعيا لخير كل مناطق السودان في الشمال والجنوب والغرب والشرق والوسط.
٣) قوة السودان المحلية
والإقليمية في هذا التنوع العرقي الذي جعل له قوة تأثيره الأفريقي والعربي، ولا يمكن أن يكون هنالك سودان بغيره، وليس لقبيلة معينة انفرادية في تكوينه، فالواجب علينا أن نحترم هذا التنوع ونجعل منه عنصر قوة وليس سبب ضعف وتمزق.
٤) العالم اليوم تجاوز هذه النزاعات المحلية، وشكَّل وحدته وتحالفاته الإقليمية، فإن لم تجتمعوا وتتوحدوا لبناء بلدكم لتنعموا جميعا بخيراته فسوف يكون مصيركم إما حروبا متصلة تقضي على الأخضر واليابس، وإما أن يُقسَّم السودان إلى دويلات متنازعة فاشلة مرهونة لغيرها، والكل سيبكي بعد ذلك على السودان الكبير . وما دولة جنوب السودان منكم ببعيد.
٥) السودان من أغنى دول العالم من حيث الموارد، ويكفي أنه يوصف بسلة غذاء العالم؛ ولكن بسبب الحروب والنزاعات صرنا أفقر دول العالم؛ بل صرنا نقف صفوفاً لساعات من أجل شراء الخبز في أكبر دولة زراعية؛ أليس في ذلك عبرة لمعتبر.
٦) أما آن الأوان أن ننتبه، وننظر ماذا جنينا من هذه الحروب والنزاعات الأهلية؟! وما الذي أحدثته من خسائر في الأرواح والثروات والبنية التحتية والتركيبة الاجتماعية وغيرها؟! ، وكم سوف نربح إن تحقق الصلح والسلام، وتوجهت الطاقات للبناء؟! .
٧) بلادنا شعبها طيب كريم من أقدر الشعوب على التسامح والتعايش، إذا أخذنا بأيدي أهل الفتنة وأصحاب النفوس المريضة المنتفعة، وتنادى حكماء السودان خاصة زعماء القبائل والإدارات الأهلية، والجماعات والطوائف الدينية والعلماء وشيوخ القرآن، والأئمة والدعاة والمعلمون في خلق وعي يتجاوز هذه الشرور المهلكة، مع اتخاذ كل الإجراءات الرسمية التي تبسط هيبة الدولة، ومحاسبة الجناة ، وتطبيق القصاص والقانون على كل جاني ، حتى لا يحتمي كل مجرم بقبيلته ويجعل القضية قبلية، وهي في أصلها نزاع شخصي ، وإلا سوف يكون من هنا دمار السودان.
أ.د. طه عابدين طه