الكابلي.. رحيل كل الجمال
كتب مختار خواجة في مدونات الجزيرة نت ينعي الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي قائلا : برحيل عبد الكريم الكابلي يخسر السودان قسطا كبيرا من مزاجه الثقافي والفني، ويفقد الكثير من ذاكرته الشفوية المختزنة لعادات وتقاليد وتراث شعبي، ومن المؤلم أن ذكرى وفاة الصادق المهدي الأولى مرت وأعقبتها بأسبوع وفاة هذه القامة الفنية التي جمعت العلم والثقافة والخلق والتهذيب والتدين معا في ثوب واحد.
وعبد الكريم الكابلي سليل أسرة تجارية عريقة عملت في شرق السودان، خاصة في منطقتي سواكن ثم القلابات على الحدود الإثيوبية، وتزوج والده المثقف الشغوف بالشعر من أسرة من الأشراف، وأخال إن لم أخطئ أن عائلة الكابلي ترتبط بصلة ما بآل كابلي في جدة، وإن لم أتحقق ذلك، وعلى أي حال فقد حكى الكابلي أن له جدة تركية من إزمير ظلت تزور عائلتها حتى وفاتها.
يكشف هذا التمازج الكبير عن سعة السودان، ومن هذه الروح المشرعة الأبواب على الثقافات والتنوع انطلق الكابلي يجمع ويوثق، ويكتب ويغني، ويعمل في دواوين الحكومة، فتنقل بين مدن السودان المختلفة، ففي بورتسودان (مدينتي) نشأ، وفي مروي وكسلا عمل، وانطلق مفتشا في المحاكم السودانية يتجول بين المراكز، فالتقى برجال وثّق لهم، فكان ذاكرة اجتماعية متوقدة، وله تسجيل على وسائل التواصل الاجتماعي يوثق فيه زيارته لمنطقة دنقلا، حيث التقى العمدة سعيد ميرغني (عمدة منطقتنا)، وتذكر تفاصيل كثيرة حول زيارته تلك.
لقد كان الوفاء سمة متجذرة فيه، فقد التقى والدي في جلسة فنية وطنية في منزل بالدوحة، وبعد 5 سنوات لقيه في محفل عام وبادره والدي بالتحية متوقعا أنه سيكون قد نسيه، ففوجئ به يحييه بحفاوة ويتذكره ويتفقد حاله.
والكابلي باحث في التراث الشعبي، مدقق متعمق، يحدثك عن كلمة “عركوس” الواردة في أشعار الحماسة عندنا، ويردها إلى عركسة الخيل واجتماعها، ويخبرك أن “النيمانج” في جبال النوبة لهم صلة بنوبة شمال السودان، وأن لهذا أدلته في لغات الجانبين وعاداتهم، ويخبرك بطرق الإنشاد بغير آلات موسيقية، وأساليبه في السودان.
كان الكابلي شاعرا كتب لنفسه وغنى، ولحن، فغنى لوطنه وللعالم الثالث “آسيا وأفريقيا”، و”يا قمر دورين” وغيرهما، وأعاد تلحين أشعار الحماسة التقليدية التي تحكي تراث الشجاعة والكرم والفتوة السودانية فسمع الناس “خال فاطمة”، و”بتين يا علي”، و”حليل موسى”، و”البشيل فوق الدبر”، أما غناؤه العاطفي فكثير متنوع، وحسبك “حبيبة عمري”، و”كل الجمال”، و”حبك للناس”، وغيرها الكثير.
أما الأوبريت فكتب ولحن “مروي”، ولحن وغنى “ليلة المولد” للشاعر محمد المهدي المجذوب، والتي غدت علامة مميزة لموسم ربيع الأول، ولحن وغنى “الهجرة والاغتراب” للشريف زين العابدين الهندي، والتي تحكي ملامح السودان في أرضه وسمائه وإنسانه.
ومن الطريف أنه أنشد قصائد دينية، وخصص لها شريطا صدر عام 2006، وفيه كتب وأنشد “يا رب العباد”، ولحن عددا من قصائد المديح النبوي السودانية، ولعل أبرز أعماله قبل هذا الشريط قصيدة “قالوا الحجيج قطع”.
إن هذه الروح الجامعة للمعاني الراقية البعيدة عن سفساف الدنيا الزائلة، والباقية على عهدها مع شعبها لتجسيد حقيقي للمثقف ذي الموقف من قضايا وطنه وشعبه، والقادر على العبور نحو المستقبل بتراثه بغير انفصال عنه ولا انفكاك، ليكون بذلك رائدا لا يكذب، ودليلا لا يخدع.
رحم الله عبد الكريم الكابلي وأعلى درجته في المقربين.